العرب بعيون فارسية ل جهاد فاضل
لو عاد أحدنا إلى الأدب الفارسي القديم، وذروته "الشهنامة"، لوجد أن موقف الفرس من العرب موقف سلبي شديد السلبية. ولو أنه أراد أن يقارن بين هذا الموقف القديم والموقف الحديث، استناداً إلى الأدب السائد في إيران، لوجد أن الموقف الإيراني من العرب، شعباً وتاريخاً ومقومات، هو ذاته لا يحول ولا يزول. "فالبدو المتوحشون الذين يطاردون السحالي في الصحراء"، وهي بعض أوصافهم للعرب، دمّروا الحضارة الفارسية، وفرضوا على الفرس ديناً غريباً عنهم. هذا الدين، أي الإسلام الذي أضاء العالم أكثر من ألف سنة، هو سبب تخلف إيران. وقد دمّر العرب الهوية الثقافية الإيرانية، ولم يُؤذ أحد إيران كما أذاها العرب. وفي مسرحية "بروين ابنة ساسان" نتعرف إلى صورة نموذجية للعرب رسمها حديثاً الكاتب الايراني هوايت "للجيش العربي العدو" المتعطش للدماء: "أنتم لا تعرفون ما يفعلون (أي العرب). عليكم أن تروا ذلك. هي ليست حرباً، بل سفك دماء. فهم يتقدمون ويقتلون، عندما قطعوا كل الرؤوس، واصطبغت سيوفهم بأحمر الدم (يقصد جنود الفتح) جاؤوا بالنار وجعلوا يحرقون. دمروا البيوت، سبوا النساء. سويت مدننا بالأرض، وباتت أرضاً يباباً، وتصاعد الدخان من الدمار. وتدفقت الدماء إنهاراً"!
على أن هذا المسرحي الايراني المعاصر، هوايت، ليس أفضل، في نظرته إلى الفاتحين العرب، من نظرة كبار الأدباء في التراث الفارسي القديم. "فالشنهامة"، ملحمة الفردوسي الشهيرة، تنتهي صفحاتها بقدوم العرب المسلمين والقضاء على إيران الساسانية واحتلالها. وقد تم تصوير العرب فيها على أنهم أقل مدنية من الفرس. فها هو رستم قائد الجيش الفارسي يرسل رسالة إلى سعد قائد الجيش العربي يقول فيها: "على من تنشد الانتصار أيها القائد العاري لجيش عارٍ؟ رغيف خبز يشبعك ورغم ذلك تبقى جائعا. ليس عندك فَيلة ولا منابر ولا مؤن ولا تجهيزات. إن وجودك فقط في إيران يكفيك من حليب النوق والسحالي، جاء العرب إلى هنا طامحين لعرش. أليس في وجوهكم حياء"؟
ويحزن الفردوسي في نص آخر في الشنهامة لأن الفرس الساسانيين سيهزمون. يحزن على المستقبل حيث سيزدهر العرب وتسود روح الشر: عندما يصبح المنبر نداً للعرش، لن يكون هناك من أسماء سوى عمر وأبي بكر، وكل جهودنا ستكون باءت بالفشل: لا عرشاً ولا تاجاً ولن تبقى هناك مدينة فتحكي النجوم أن لا رابح سوى العرب".
ومرة أخرى تظهر صورة العربي البائس غير المتمدن، مقابل الإيراني المتنعم في كتاب "سفر نامة" لناصر خسرو، وهو عمل أدبي كلاسيكي ظهر في القرن الحادي عشر. وفيه يصف العرب الذي رأسهم في أثناء عودته من مكة "باللصوص والمجرمين الذين يتقاتلون فيما بينهم. وقد أخبرني أحد رجال القبائل أنهم في حياتهم كلها لم يشربوا سوى حليب النوق. لقد كانوا جوعى، جاهلين وعراة. وكل من جاء ليصلّي، كان يأتي بسيفه وبترسه وكأن ذلك أمر طبيعي"!
هذه هي صورة العرب في الأدب الفارسي القديم، أما صورتهم في الأدب الفارسي الحديث، فقد تكفلت باحثة أجنبية تُدعى "جويا بلندل" في تقديمها في كتاب جديد صدر هذا الأسبوع في بيروت ودمشق عن دار قدسي عنوانه (صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث). الصورتان: القديمة والحديثة، متطابقتان من حيث خطوط العنصرية والعنجهية والتعالي على العرب وكراهيتهم. فإذا بدأنا بالفكر القومي الإيراني، وجدنا أن النُخب الإيرانية التي درس أكثرها في الغرب، تؤسس الوعي القومي الإيراني الذي ساد إيران في الربع الثاني والربع الثالث من القرن العشرين على عاملين اثنين: العامل الأول هو اللغة الفارسية، ولكن بعد تنقيتها من كل أثر للعربية فيها. أما العامل الثاني فهو تاريخ إيران ما قبل الإسلام.. وهذان العاملان وحدهما يدلان على ما في الوجدان الإيراني من سلبية تجاه العرب. وقد رافق هذه "السياسة القومية"، الاهتمام بالزرادشتية، واطلاق الأسماء الإيرانية البحتة التي اشتهرت خلال حقبتها، على المواليد الجدد.
وتعرض جويا بلندل لأعمال أدبية إيرانية حديثة بحثاً عن صورة العربي كما يرسمها أدباء إيران المحدثون، فلا تقع إلا على كل ما هو كاره للعرب، ومندد بهم، وبتدميرهم على الخصوص للحضارة الساسانية وإفقارهم للروح الإيرانية البحتة. فالإسلام دين غريب يعارض جوهر الثقافة والقيم الإيرانية الفارسية الحقة. وأحد هؤلاء الكتّاب أو المنظرين الإيرانيين، واسمه نادر بو، لا ينظر إلى الإسلام باعتباره معادياً للنزعة القومية الإيرانية الفارسية وللمدنية وحسب، بل هو يجادل أن هناك تناقضاً بين "أنا إيراني وروحي الإسلام"!
ويرى نادر بور "أن الشعب الإيراني، بأصوله وديانته القديمة ولغته الهندو/أوروبية، لم يكن ليعتنق الإسلام لو لم تنجح الأحداث التاريخية في أسر روحه وفتنه لأنه كان لهذا الشعب وطنيته وتراثه. إن تحليلاً معمقاً لتلك العناصر يقودنا إلى هذه النتيجة وهي أن الأدب الفارسي، منذ نهضته بعد الفتح العربي، وحتى يومنا الحاضر، ومع المظاهر الإسلامية، ليس إلا رمزاً من الصراع الدائم بين روح الدين والروح الإيرانية. فالثورات المتتالية ليست إلا الصورة المقلوبة لوجه الميدالية الواحد: ألا وهو التكفير في خطيئة"!
ويتضح مما يقوله نادر بور أنه يعود الفضل في اعتناق إيران للإسلام إلى "جملة أحداث تاريخية" تمكنت من أسر روح الشعب الإيراني. ومع ذلك فإن الإسلام لم ينجح في التغلغل إلى ثنايا هذه الروح بدليل الثورات المتتالية بوجهها.
وحتى عندما اعتنقت إيران الإسلام الشيعي، كما تلاحظ الباحثة الأجنبية في بعض صفحات الكتاب (صفحة 31/30وما بعدها) فقد صبغته بصباغ إيراني. فقد أضفوا عليه من العناصر الفارسية ما نأى به عن التشيع بصورته ومظاهره العربية المعروفة. صحيح أن الإمام علي - كرم الله وجهه - مازال عربياً ولم يتحول إلى فارسي، إلا أن الفرس "أسقطوا على نحو واضح بعضاً من صورتهم الذاتية المثالية عليه". ويقول الكاتب الإيراني دوراج "إن أصول علي العربية ليست موضع نقاش اطلاقاً. ولكن الرسومات واللوحات في إيران تصور الإمام علي إيرانياً وسيماً".
وتثير الباحثة مسألة حساسة تتصل بالعلاقة بين العرب والإسلام من جهة، وبين الإسلام الشيعي والإيرانية. فتقول: "لقد تمت أسلمة إيران. وفي عيون بعض الإيرانيين، الإسلام في جوهره عربي. لذا فهو غير إيراني. وهناك آخرون يرون أن الإسلام الشيعي هو إسلام مؤيرن (أو إيراني). وهو في صميمه إيراني. ويشكل جزءاً أساسياً في مفهوم الإيرنة". وتستمر الباحثة في دراستها تعرض النماذج من أدب الفرس المحدثين في نظرتهم العنصرية إلى العرب، ومن اطرف ما ذكرته عن الخيّام، صاحب الرباعيات الشهيرة، أنه بدوره كان يكره العرب. ففي مقدمته "رباعيات الخيام" باللغة الفارسية، يقول "هدايت": من ضحكاته الغاضبة، وإلماحاته إلى ماضي إيران، يتضح أنه كان يكره أولئك العرب قطاع الطرق، ويحتقر أفكارهم السوقية من أعماق قلبه" (ص51) في حين أن الخيّام لم يكن كذلك أبداً، بل كان من المنتفعين بتراث العرب الأدبي، وبخاصة بتراث أبي العلاء المعري. ولكن الباحث "هدايت" يريد قسراً أن يجعله كذلك.
ربما من أجل كل هذا التراث العنصري ضد العرب، لا يدخل باحثون ومؤرخون معاصرون، إيران في عداد الدول التي تميزت بخدمة الإسلام والنضال في سبيله عبر التاريخ، كالعرب والترك على سبيل المثال. وربما كان من الملحّ قيام حوار في العمق بين نُخب إيرانية ونُخب عربية. فما بين الشعبين الجارين من الأواصر والصلات ما يستحق أن يناقشه العقل، لا المشاعر الهائجة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق